إعداد: د. سيد محمد الداعور
قصة نجاح الهند وتقدمها الكبير في مجال تقنية المعلومات والبرمجيات؛ حيث يتوقع اتحاد شركات البرمجيات الهندية «ناسكوم» أن تبلغ قيمة صادراتها إلى جميع أنحاء العالم، بما فيها الولايات المتحدة وأوروبا، حوالي خمسين مليار دولار عام 2008 ، بينما بلغت عام 2002 حوالي الستة مليارات؛ تضعنا
:أمام هذا التساؤل
لماذا تقدمت الهند وتخلفنا نحن كعرب في هذا المجال؟
رغم أن الهند تعد من الدول النامية الفقيرة، ولا تملك من الإمكانات المادية مثلما نملك، وصورتها بشكل عام في العالم العربي مقترنة بالتخلف، وخاصة في الخليج العربي، حيث تنتشر العمالة
.الهندية بشكل كثيف وتعمل في المهن الوضيعة لقاء أجور زهيدة
لكن للهند الآن وجه آخر وصورة جديدة بدأت تظهر منذ عقد التسعينيات، فهي (وادي سيليكون) جديد، جنوبي آسيا، إذ تستقطب الهند صناعة تقنية المعلومات بشكل متزايد، وقد تحولت مدينة بنغالور الهندية إلى معقل عالمي لهذه الصناعة، استوطنت فيه كبرى الشركات العاملة في هذا الحقل على
.مستوى الأرض، وبرعت فيه شركات محلية أيضاً
ويرى العرب اليوم، بما في ذلك منطقة الخليج التي تتطلع إلى مواكبة ثورة المعلومات والإفادة منها، أنّ للهند وجهاً آخر سبق إلى المنافسة، تجدر قراءة تجربتها، طالما أنّها تقع في الجوار الخليجي، وكونها أمة نامية أيضاً
وفي المحصلة، تكون الهند قد نجحت في بناء صورة لها كمصدر أول لمحترفي تقنية المعلومات في
العالم
عُرفت الهند بدءاً من خمسينات القرن الماضي بكونها مصدراً أساسياً لخبراء الحاسب في العالم، وشجع انخفاض الأجور، وتواضع تكاليف المعيشة فيها، وانتشار اللغة الإنكليزية، الكثير من الشركات الأجنبية، ليس فقط على الاستعانة بشركات هندية لأداء خدمات التطوير الخارجي، ولكن أيضاً على افتتاح فروع كبرى لها في الهند، تضم آلاف الموظفين لأداء هذه العمليات
ويبدو أنّ تنامي هذه الصناعة في الهند بأشكالها المختلفة، وانتشار الخبراء الهنود حول العالم، أصبح يشكل تهديداً لسوق العمل لإخصائيي تكنولوجيا المعلومات في بلد كالولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي دفع ممثل ولاية نيوجرسي في مجلس الشيوخ، لاقتراح تشريع يمنع على غير مواطني الولايات المتحدة، أو الذين لا يملكون رخصا للعمل، أن يعملوا في بعض مشروعات تقنية المعلومات
وقد أعلنت شركة «أوراكل» العاملة في قطاع تقنية المعلومات في حزيران/يونيو الماضي عن عزمها على مضاعفة عدد موظفيها في الهند من ثلاثة آلاف إلى ستة آلاف خلال سنة واحدة. ويأتي ذلك منسجماً مع كون الهند هي المقر الرئيس لعمليات الدعم الفني لهذه الشركة العملاقة، كما يجري فيها قسم كبير من عمليات التطوير، بل تعتزم الشركة نقل خدمات أخرى تابعة لها إلى الهند، بما في ذلك المحاسبة الداخلية
ولكن ما هي العوامل، التي تقف وراء تفوق الهند في صناعات تكنولوجيا المعلومات وخدماتها، بحيث
أصبحت الآن الدولة الأولى في خدمات التطوير الخارجي ؟
عوامل نجاح التجربة الهندية
الكتلة البشرية الهائلة، التي ينطوي عليها هذا البلد، فالهند هي ثاني أكبر دولة في العالم، بالنظر
لعدد السكان، الذين يتجاوز المليار نسمة، ويساعد انتشار الجامعات والمعاهد التقنية على تخريج أعداد هائلة من إخصائيي تكنولوجيا المعلومات
العامل اللغوي
تعتبر اللغة الإنكليزية، وهي اللغة المهيمنة على قطاع تقنية المعلومات، اللغة الرسمية الثانية في الدولة، وفي كثير من الأحيان يتكلم الهنود اللغة الانجليزية، وخاصة في الولايات الجنوبية من شبه القارة الهندية
ساعد انخفاض تكاليف المعيشة في الهند وما يتبعه من انخفاض في الأجور، على زيادة قوة العمل في البلاد. ولكن للجودة الهندية دورها. فمعظم الشركات الهندية العاملة في خدمات التطوير الخارجي حائزة على شهادات الجودة «الإيزو»، إلى الدرجة التي جعلت ثلاثة أرباع الشركات الحائزة على شهادات الجودة المتعلقة بشركات تكنولوجيا المعلومات "سيكم"، موجودة في الهند
وكذلك وجود بنية اتصالات قوية، خاصة في مراكز صناعة المعلومات ومن هذه العوامل
العمل الدائم على تطوير حلول برمجية متقدمة، فهناك الكثير من التجارب الهندية الناجحة، التي مرت عليها سنوات من التطوير، وتشمل هذه التجارب حلول التجارة الإلكترونية، وحلول قواعد البيانات بكل أنواعها، وحلولاً محاسبية، وحلول النشر الإلكتروني، مما يسهل على الشركات الأجنبية الاعتماد الكامل على الشركات الهندية لاستعمال مثل هذه الحلول
أما الاقتصاد الهندي فهو عامل آخر مشجع، فهو يحقق نمواً مستمراً، ويساهم قطاع الخدمات بنحو 51 في المائة من الدخل القومي، في حين يشهد قطاع تصدير البرمجيات نمواً سنوياً يتراوح بين 40 إلى 50 في المائة، إلى الدرجة، التي جعلت الهند تتبوأ المكانة الثانية في العالم في تصدير البرمجيات، وسط ظهور متزايد لشركات عملاقة فيها مثل (ويبرو)، و(إنفوسيس)
ويرى زكار أنّ هذا النجاح الهندي لا يمكن فصله عن وجود (نظام سياسي مستقر وحكومات ديمقراطية، تشجع وترعى تطور صناعة البرمجيات والاتصالات، وتتبع سياسات اقتصادية وضريبية خاصة تجاهها)
ويدعم النظام الضريبي الهندي صناعة البرمجيات والتطوير الخارجي للخدمات، فهناك إعفاء ضريبي لمدة خمس سنوات للشركات المزودة للإنترنت، وإعفاء لمدة عشر سنوات للمجمعات التقنية مثل المجمع، الذي شيدته شركة «صن مايكروسيستيمز» في بنغالور، والذي يضم خمسة آلاف مبرمج وفني، بينما تمنح الهند إعفاء ضريبياً لمدة عشر سنوات للشركات العاملة في البحث العلمي
الثروة البشرية
أما الخبير التقني المعروف الدكتور عبد القادر الفنتوخ فيرى أن ثروة العقول التي تسعى كل الدول لامتلاكها هي سر تقدم الهند وتخلفنا ومن ثم امتلاك التقنية المتقدمة في صناعة البرمجيات وتقنية المعلومات، وبات جلياً أن الدولة التي ستعاني من قلة الأيدي الماهرة في مجال تكنولوجيا المعلومات لن يمكنها تحقيق التقدم المنشود
ويوضح الفنتوخ التجربة الآسيوية في امتلاك العقول، قائلاً: (بدأت الدول الآسيوية تعتني بتنمية العقول والقوى البشرية لتأهيلها للعمل في أحد تخصصات تكنولوجيا المعلومات نظرًا لحاجاتها الشديدة لهذه التخصصات مع قلة أعداد الخريجين، فالجامعات في سنغافورة على سبيل المثال لا تخرج سوى 2500 من الشباب الماهر في تكنولوجيا المعلومات سنويًا، بينما حاجتها السنوية تصل إلى 10 آلاف منهم)
وتؤكد دراسة حديثة أن كوريا الجنوبية تحتاج إلى 100 ألف من العقول الشابة المدربة كل عام، لكن جامعاتها لا تخرج سوى 48 ألفًا سنويًا
وأما العملاق الياباني فإنه بحاجة إلى ما بين 300 ألف إلى نصف مليون سنويًا للبقاء على قيد الحياة الاقتصادية، وبمعنى آخر مليون إلى مليونين حتى عام 2005م. لذلك جمعت الحكومة اليابانية مجموعة من كبار رجال الصناعة والمال والعلماء في مجلس لرسم خطة لجعل اليابان قوة عالمية في تقنية المعلومات، وكان أول بند من بنود الخطة هو جذب 30 ألف ماهر تقني من الخارج سنويًا حتى ذلك العام (2005)
أما بالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا فالأرقام أكبر من ذلك بكثير وبخاصة أن هذه الدول تمثل عنصر جذب للعقول المدربة والماهرة في مجال تكنولوجيا المعلومات. فالتنمية البشرية وتدريب شبابنا على المهارة العالمية في تكنولوجيا المعلومات هي الثروة الحقيقية التي يجب أن نسعى لامتلاكها. وبالإضافة لذلك هناك مورد آخر لهذه الثروة ألا وهو جذب العقول العربية والمسلمة التي هاجرت إلى الدول الغربية، وذلك بتوفير المناخ الملائم والإمكانات المطلوبة للإبداع في هذا المجال
وبذلك نكون قد أزلنا أحد عوائق صناعة البرمجيات في بلادنا العربية
الفرصة أمام العرب
وإذا كان العالم العربي ينظر إلى التجربة الهندية بوصفها دليلاً إضافياً على حالة العجز العربي المزمنة، فإنه يرى فيها بالمقابل فرصة مشجعة على إمكانية اللحاق بقصة النجاح ذاتها، طالما أنّ الهند تبقى دولة نامية، وتعج بملامح الفقر
وفي الوقت الذي يطمح فيه مسؤولون عرب إلى تقليد التجربة الهندية في بلدانهم، يؤكد زكار أنه (رغم كل ما يقال عن توجه الدول العربية نحو تقنية المعلومات، وإنشاء مدن للإنترنت، وتجمعات تقنية، إلا أننا ما نزال بعيدين عن القيام بتجارب مماثلة للتجربة الهندية)، وذلك لعدة عوامل مثل: عدم الاستقرار السياسي في المنطقة، والصراع العربي الإسرائيلي الذي أعاق التنمية
أضف إلى ذلك ضعف البنية الأساسية للاتصالات في العالم العربي
وأما الدول التي تمتلك بنية اتصالات متطورة، فيبدو أنّ التوجه نحو الأنشطة التجارية هو المسيطر، بحسب زكار، الذي يقول: «رغم الصورة المشرقة لمدينة دبي للإنترنت، إلا أنّ معظم الأنشطة فيها هي أنشطة تجارية وإعلامية»
وارتفاع تكاليف المعيشة في الإمارات، بوصفه يحدّ، أو حتى يجعل من المستحيل على شركات تقنية المعلومات العملاقة، أن تفكر بإنشاء تجمعات تضم أكثر من عشرين شخصاً في دبي، بينما الجار الهندي يفتح ذراعيه لهذه الشركات، ويزودها بجيوش جرارة من المبرمجين، وبأجور أقل بنحو 50 إلى 75 في المائة من الأجور، التي تحتاج هذه الشركات إلى دفعها في الإمارات
ومن الواضح أنّ اهتمام الحكومات العربية بصناعة تقنية المعلومات لا يرقى إلى ما تفعله الحكومة الهندية، وبالتالي لا يوجد هناك إعفاءات ضريبية ولا تسهيلات خاصة للمستثمرين، باستثناء بعض الدول. ولكن بالمقابل، هناك فرصة كبيرة تستطيع دول المنطقة اغتنامها لإنشاء صناعة خدمات التطوير الخارجي، وذلك بالعمل على زيادة عدد المعاهد والكليات، التي تدرس تقنية المعلومات، بحيث يكون في كل مدينة عربية معهد أو كلية واحدة على الأقل، مع تشجيع الدارسين على الحصول على درجات عالية كالماجستير والدكتوراه
وإعطاء أهمية قصوى لتحديث المناهج في هذه المعاهد والكليات باستمرار، وحرية للمدرسين لتغيير جزء من المنهاج، حسب الضرورة، واعتماد سياسات خاصة لتشجيع قيام صناعة تكنولوجيا المعلومات، تشتمل على إعفاءات ضريبية، وتسهيل المعاملات واستقطاب المستثمرين الأجانب للمشاركة فيها، دون إهمال ضرورة تطوير البنية الأساسية للاتصالات، وتشجيع البحث العلمي